قيس وليلى
أغلب
قصص الحب المشهورة حدثت في صدر الإسلام، وأشهرها على الإطلاق حكاية ليلى
والمجنون .. والمجنون هو قيس بن الملوح ابن عم ليلى، يلعبان في الصبا،
ويرعيان الغنم معا في البادية العربية، كان ذلك في القرن الأول الهجرى، في
وقت كانت البادية العربية تعيش في عزلة نسبية .
لقد
انتشر الاسلام، واثر في نفوس البدو، وغير من مفاهيمهم الاجتماعية، وبدأت
العلاقة بين الرجل والمرأة تتخذ شكلا جديدا، الحياة كلها اختلفت صورتها عن
أيام العهد الجاهلي القريب . لقد جاء الاسلام فرفع منزلة المرأة العربية .
لم تعد واحدة من أساليب اللهو التى اعتاد عليها البدوي ليحقق وجوده الضائع
في الصحراء المترامية الأطراف إلى جانب الخمر والميسر، إن الدين الجديد
يحرم عليه الخمر ويحرم عليه الميسر، ويفرض عليه قيودا دينية واجتماعية
وخلقية . ولكن الفراغ قاتل .. والشباب مارد في الجسد يود أن ينطلق،
ونافذته القلب .. وكل شئ من حول الشباب يدعو للحب ويطالب به، فينظر حوله،
ولا يرى إلا بنات أعمامه، أنهن رفيقات اللعب في الصبا، واول من يتعرف
اليهن من نوع الانثى .. ويختار الشاب احداهن .. تسحره نظرة منها أو
التفاتة أو كلمة عابرة .. ويميل القلب نحوها ولكن فجأة تختفي بنت العم
تماما .. لقد حجبتها التقاليد داخل خيمتها، لا تخرج منها إلا بصحبة حارسة،
وإلا للضرورة القصوى، انها الآن تعد لدخلو الحياة الزوجية لا لعب برئ
ولاضحكات طفولية ولا دعابات متبادلة بل صمت .. وإحساس مرير بالوحدة ..
هذه
الظروف ما هى إلا تربة خصبة لنمو العاطفة واشتعالها .. فيستبد الوجد
والشوق إلى المحبوبة ويزداد التعلق بها، وتسيطر صورتها على خيال الحبيب
ولا يفكر الا فيها .. إن حياته كلها أحلامه وأشواقه تتقطر وتتركز في نقطة
واحدة : أن يراها . ويتحول الشاب الذى كان يزهو بفتوته بين أقرانه، إلى
شبح هزيل يجبو الصحراء، تتقاذفه العلل والاوهام، يردد أبيات شعر رائعة عن
حبه وعن ذكريات طفولته ويذكر فيها ليلى بنت عمه كثيراً ..
أخيراً
يتقدم قيس إلى عمه طالباً الزواج من ابنته ليلى .. وبدلا من أن يفرح العم
ويرحب، إذا به يرفض، ويصر على الرفض . لماذا ؟ لأن التقاليد تمنع العرب من
الموافقة على زواج ابنته من رجل تشبب بها أى تغزل فيها في شعره !!
وتتزوج ليلى من فتى من قبيلة ثقيف.. صحبها معه إلى الطائف، ولعل ذلك الحل كان بوحى من أبيها الذي شاء أن يبعدها عن مسرح الاحداث .
ويترك
قيس وحيدا، فيصاب بالجنون . ولا شك أن عقله عجز تماما عن فهم أو تقبل ذلك
المنطق الذي خضع له عمه، وكل القبيلة .. التي لم يحاول أحد فيها أن يلين
من صلابة رأس ذلك الرجل، أو يوفق بين الرأسين في الحلال ..
ولا
شك أن ذلك العم كانت لديه أسباب عديدة .. لكن أحدا لا يخبرنا عنها . أننا
نعرف فقط أن التقاليد العربية في ذلك الوقت هي التى أملت عليه كلمة لا،
وأن هذه الكلمة تعلقت بلسانه، وسدت أذنيه وأغمضت عينيه فلم ير ابن اخيه
يهيم في الصحراء، ولم يرق قلبه وهو يستمع لأرقى الشعر يردده كل الناس بعد
قيس، يصور فيه لوعته ويذيب شبابه الغض قطرة قطرة على رمال الصحراء التى لا
ترتوي . ثم يلقى حتفه في واد مهجور، بعيداً عن أهله، وليلى التى عذبته
بحبها .
ولاشك
أنه كان شخصية فريدة من نوعها .. أو لعلها المبالغات التي يولع بها الناس
فيزينون بها قصص الحب تعبيراً عما تختزنه قلوبهم من كبت وحرمان يقولون :
إن قيساً كان يغمى عليه كلما ذكر اسم ليلى، وسواء كان الحديث عنها بمكروه
أو بخير فهو يغشى عليه بمجرد سماعه اسمها ! ويقولون إنه وقف ذات يوم يتحدث
إلى ليلى وفي يده جمرة من نار فأخذت النار تحرق رداءه حتى أتت عليه ووصلت
إلى جسمه وقيس لا يشعر ! وفي أواخر أيامه حكي عن قيس أنه عاش مع الوحش
فأنس إليه وفضله على بنى الإنسان، وأن الوحوش أيضاً صارت تأنس إليه ! أى
أن قلوبهم رقت لحاله، بينما ظلت قلوب أهله كالحجر الذى لم يتفتت ولم يذب
لسماع أشعار قيس الرائعة.
من هذه القصص الشهيرة حكاية قيس آخر، هو قيس بن ذريح الذي عشق لبنى في زمن معاوية .
كان
قيس ابن أحد أثرياء البادية، وكان أخا من الرضاعة للحسين بن علي، وذات يوم
حار كان يسير في الصحراء فشعر بالعطش الشديد، واقترب من إحدى الخيام طالبا
ماء للشرب .. فخرجت له فتاة طويلة القامة رائعة الجمال ذات حديث حلو هي
لبنى بنت الحباب . أسقته لبنى، فلما استدار ليمضى إلى حال سبيله دعته لأن
يرتاح في خيمتهم قليلاً ويستبرد . فقبل دعوتها وهو يتأملها باعجاب شديد .
وتقول
الحكاية أن أباها الحباب جاء فوجد قيسا يستريح عندهم فرحب به وامر بنحر
الذبائح من اجله واستبقاه يوما كاملاً، وعندما عاد قيس إلى ابيه حدثه في
أمر زواجه من لبنى، لكن الأب ذا الثراء العريض كان يريد ان يزوجه واحدة من
بنات أعمامه ليحفظ ثروة العائلة .
لم
يجد قيس بن ذريح أذنا صاغية لدى والده، فلم ييأس وذهب إلى الحسين بن علي،
أخيه من الرضاعة، وشكا له حاله، فتدخل الحسين لدى العائلتين وتمت النهاية
السعيدة : تزوج قيس من لبناه، لكن القدر لم يشأ للعاشقين أن يتحولا إلى
زوجين عاديين ممن يقتلهما السأم، ولعل حكمته في ذلك ان يستمر الشاعر قيس
بن ذريح في نظم اشعاره الجميلة . ظل الزوجان معا، لعدة سنوات دون ان
ينجبا، ودون تردد أشعات الأسرة أن لبنى عاقر .
ولما كان أبو قيس تواقا لذرية تتوارث ثروته الطائلة، فقد ألح على ابنه أني تزوج من أخرى لتنجب له البنين والبنات .
لكن
قيسا أبى .. لقد أشفق على حبه القديم لبنى من ضرة تشقيها وتعذبها . وظل
الأب يلح ويسوق عليه كبار القوم، دون جدوى وامعانا في الضغط عليه اقسم
الاب ألا يظله سقف بيت طالما ظل ابنه مبقيا على زواجه من لبنى .
كان قيس شديد البر بوالده فلم يشأ أن يتركه يتعذب في الهجير، واضطر اضطرارا لأن يطلق لبنى .
إلا أنه ظل العمر كله نادما على فعلته مشتاقا للقائها يردد في أسى :
يقولون لبنى فتنة كنت قلبها بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائى وعصيت ناصحى واقررت عين الشامت المتملق
ووددت وبيت الله أنى عصيته وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر الزاخر أبيت على إثباج موج مفرق
كأنى أرى الناس المحبين بعدها عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عينى بعدها كل منظر ويكره سمعى بعدها كل منطق
ولم
يتوقف قيس عن ملاحقة لبنى بعد الطلاق . فاضطر أبوها إلى أن يشكوه الى
معاوية، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم يهدر دم قيس إن هو تعرض للبنى .
سمعت
لبنى بذلك فقبلت الزواج من رجل آخر يدعى خالد بن حلزة، لكى تجبر قيسا على
الابتعاد عنها وتحميه من القتل . فعلت لبنى ذلك وهي ما تزال تكن كل الحب
لزوجها السابق قيس .
كان قيس يعرف ذلك ويعرف أنها تحبه بمقدار ما أحبها، فركب راحلته وذهب إلى خيام أهلها وهناك راح ينشد الشعر وهو ينشج :
إن تك لبنى قد أتى دون قربها حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي ونعلم *** بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار وتوقنا سماء نرى فيها النجوم تجول
وقد
روى الاصفهاني في كتابه " الأغانى " أن أشعار قيس لحنها الملحنون وغناها
المطربون فاشتهرت وذاع صيتها وسمع بها زوج لبنى فثار عليها، لكنها لم تعبأ
بثورته وطالبته أن يطلقها إن شاء . وأدرك الزوج ألا خطأ لها ولا ذنب،
فهدأت ثائرته، ويقال انه أراد أن يصلحها فأحضر الجواري من المدينة ليغنين
لها أشعار قيس !
حكاية
لبنى تختلف كثيراً عن صاحبتيها ليلى وبثينة، فالقدر هو الذي فرق بينها
وبين قيس بن ذريح، ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئا وليومنا هذا مازال الاتهام
يحاصر الزوجة أولا إذا لم تنجب، فإذا ثبت أن الزوج هو السبب نصحت بأن تضحي
من أجله وتبقى معه، أما إذا ثبت أن الزوجة هى العاقر فلا أحد يطالب الزوج
بأي تضحية، ويصبح من حقه أن يتزوج هى العاقر فلا أحد يطالب الزوج بأي
تضحية، ويصبح من حقه أني تزوج عليها أو ان يطلقها . وحكاية الاصفهاني تدلل
على ان لبنى لم تسلم قلبها للزوج الثانى الذى فرض عليها فرضاً، وظلت حزينة
مجروحة الفؤاد تبكي بحرقة كلما تذكرت قيسا، أو كلما سمعت أشعاره الحزينة
ترددها الجواري في مجالس الغناء . ظلت لبنى على هذا الحال حتى ماتت .
فبكاها قيس وأنشد على قبرها :
ماتت لبينى فموتها موتي هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب قضى حياة وجدا على موت
ويقال انه فقد عقله، وظل طريح الفراش حتى لحق بها، فدفن إلى جوارها .
وهكذا
لم يستطع تحكم الأهل ولا سيطرة العرف والتقاليد، ولا احتجاب لبنى عن
حبيبها، أو ابتعادها أو زواجها من رجل آخر أن يحملوا قيسا على نسيانها .
بل لعل هذه الأمور مجتمعة كانت وقودا أشعل نار الحب في قلب شاعرنا .
وجعلها تزداد اضطراما مع الايام، كما كانت جذوة الهبت موهبته فانطلق يقول
أعذب الشعر .
ويبقى سؤال هل كان قيس بن ذريح سيقول كل ذلك الشعر الجميل لو لم يلتق بلبنى ولم يحبها ولم يجبر على فراقها ؟!
يقولون
أن أعذب الشعر أكذبه . وهم يعنون أن أروع الشعر ما يلجأ إلى الخيال ولا
يرتكن إلى الحقيقة، ولكن حكايات العشاق تجعلنا نصدق أن عاطفة ما، كانت
وراء تلك الابداعات وأن ظروفا معينة لابد أن تحدث للشاعر كي تتولد طاقته
على الابداع فما هى هذه الظروف … ؟!
_________________